من أسرار الحج ..؟!



من أسرار الحج ..؟!

لقد فرض الله جل وعلا شعيرة الحج وأختار لها زمانًا حرامًا، وقضى بحكمته أن يكون في آخر عدة الشهور الإثني عشر، ومن تتبع فضائل الأعمال والأزمان وجد لآخر كل زمان مزيد فضل وشرف، ويشهد لذلك فضل آخر الليل على أوله، وآخر يوم الجمعة وآخر يوم عرفة، وكذلك العشر الأواخر من رمضان وفضل آخر ليلة منه، ونشهد هنا اختصاص آخر الأشهر عدة عند الله وهو شهر(ذو الحجة)، بتشريع ركن عظيم من أركان الدين وهو الحج، لتختم أشهر العام بموسم تضاعف فيه الحسنات وتغفر فيه الزلات، ويعتق الله فيه من النار من يشاء برحمته وعفوه.

ومن فضائل الحج العظيمة:

أنه يعدل الجهاد في سبيل الله ، وخصوصاً للنساء والضعفة، وذلك لأحاديث ، منها ما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله ! نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد ؟ قال ” لكنَّ أفضل الجهاد وأجمله ، حج مبرور ثم لزوم الحصر . قالت ” فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ” البخاري.

الحج المبرور جزاؤه الجنة : كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ” البخاري ومسلم .

محو الخطايا والسيئات : كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ” من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ” البخاري ومسلم .

الحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد : فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ” أي الأعمال أفضل ؟ قال ” إيمان بالله ورسوله. قيل ثم ماذا ؟ قال ” الجهاد في سبيل الله . قيل ثم ماذا ؟ قال الحج المبرور”.

و في مناسك الحج إيمان بالرسل وتعظيم واحترام وحث على الاقتداء بهم ومحبتهم، وذلك أعلى الخصال وأكمل الأحوال, وقد وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خذوا عني مناسككم)، حتى أن فيها تذكيرًا لمن يتصل بهؤلاء الرسل العظام كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في السعي بين الصفا والمروة حيث ذكر قصة هاجر أم إسماعيل؛ قال: ( فلذلك سعى الناس بينهما)، فإذا وصل الحاج إلى كل مشعر من هذه المشاعر جعل أفعال نبيه وأحواله وشخصه الكريم نصب أعينه، عالما أنه لا تتم عبادته كلها ولا تكمل إلا بتمام الأسوة والقدوة به, فيزداد إيمانه بنبيه، وقوة المحبة والشوق إليه، التي هي من أعظم واجبات الإيمان وشروطه.

وفي الحج حكم عظيمة وأسرار يتضح بعضها ويخفى بعضها ، فلو لم يكن فيها من الحكم إلا أن حقيقة الحج هو استزادة الرب لأحبابه ووفود بيته، وأنه أوفدهم إلى كرامته ودعاهم إلى فضله وإحسانه ليسبغ عليهم من النعم والكرامات وأصناف الهبات ما لا تدركه العبارة ولا يحيط به الوصف؛ فنوع لهم الأنساك والمشاعر لينوع لهم الإحسان، ونقلهم من كرامة إلى كرامة ومن مائدة من موائد فضله إلى مائدة من موائد كرمه، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم) صحيح الجامع ,وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( الحجاج والعمار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم ) صحيح الترغيب والترهيب للألباني, وهاهنا بعضًا من خصائص هذه الفريضة وأسرارها:

فالحاج يخرج من بيته, قاصدا بيت ربه العظيم, مستجيبا لربه عازما على المضي في الطريق المستقيم الذي دعاه إليه, معلنا شعار عهده الجديد بالتلبية: (لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك .. لا شريك لك), إنها استجابة متكررة للخالق العظيم الرحيم, استسلاما وخضوعا وانقيادًا له وتلبية لأمر الله تعالى :- ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) .. فكانت إجابة البشر من مشارق الأرض ومغاربها طلباً لمرضاة الله. وفي تكرار كلمة ( لبيك) وَعدٌ من الحاج لربه بطاعة بعد طاعة وشهادة منه على نفسه بإجابة بعد إجابة، فعليه أن يكون صادقا في دعواه، وليخش نقضها بحاله أو مقاله, لذا كان لزاما على الحاج إدراك معاني هذه الكلمة ودلالاتها.

وفي فضلها قال رسول الله “ما من مسلم يلبي إلا لبي من عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا” صحيح الترمذي.

وتارة يطوف ببيت ربه ويكرر ذلك يترضى ربه ويتملق له ويخضع لعظمته.

وفي فضله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” من طاف بهذا البيت سبوعاً فأحصاه كان كعتق رقبة ” صحيح الترمذي . وقال ” لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة وكتبت له بها حسنة .. ” صحيح الترمذي.

وتارة يسعى بين الصفا والمروة يتردد بين هذين المشعرين العظيمين اللذين كم تردد بينهما من رسول ونبي وكم سعى بينهما من ولي لله وصفي .

وتارة يقف بالمشعر الحلال وهو عرفة وتارة بالمشعر الحرام وهو مزدلفة يبدي ما في وسعه من خشية وخضوع وخشوع وإنابة وانجذاب تام إلى ربه, يتضرع إلى مولاه ويسأله مصالح دينه ودنياه يقف فيها موقف السائل المسكين الذليل ويطمع غاية الطمع في كرم المولى الجليل، وتارة يثني على ربه ويسبحه ويهلله، وتارة يذكر من منن مولاه ما أسبغه عليه وحباه، وتارة يسأل ربه أن يصلح قلبه بالمحبة والإنابة والإخلاص والنصيحة ويعيذه من مساوي الأخلاق والأعمال القبيحة.

وتارة يرمي الجمرات تنبيها وإشارة إلى رمي الخطايا ومراغمة العدو المبين ويقف عندها طالبا الرحمة والغفران من الملك الحق المبين.

وتارة يذبح قربانه تقربا إلى الله بالذبح الذي هو أفضل وأولى ما دخل في قوله عز وجل: {{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }}الكوثر: 2

فأفعال الحج وأقواله كلها أسرار وحكم المقصود منها القيام بالعبودية المتنوعة والإخلاص للمعبود؛ فالحج مبناه على الحب والإخلاص والتوحيد والثناء والذكر للحميد المجيد؛ فإنما شرعت المناسك لإقامة ذكر الله, ولتحقيق تقوى الله والإخلاص له.