سَجن الذَات!



قبل بضع سنوات بدأت بحضور دورات في تطوير الذات والقراءة حول هذا الموضوع، واستفدت منها في تنمية كثير من المهارات كالإلقاء والقيادة والعلاقات الاجتماعية، ولم أشعر بوجود تناقض بينها وبين ما تعلمناه من ثوابت شرعية وقيم أخلاقية واجتماعية.

ولا أزال أعتقد إلى هذه اللحظة أنَّ في عالم التطوير والتدريب ما هو رائع ومفيد، وأسعى للاستفادة والإفادة منه.

لكنَّني مؤخراً لاحظت وجود تناقض كبير بين ما ينادي إليه “بعض” من ينتسب إلى هذا العلم، وتحديداً “علوم الوعي والطاقة ” وبين طبيعة النفس والحياة.

هذا التناقض أجده أيضًا يتعارض مع ما درسته في علم النفس، كما أنكره مختصون في علم النفس والعلاج النفسي.

إن الحديث عن الطاقة بات منتشرًا، ودوراتها بلغت الآفاق؛ لذا أجد من المهم أن أوضح للقارئ الكريم خمس ركائز رئيسة تقوم عليها تلك الدورات، وكانت سببًا في انتشارها.

  

الركيزة الأولى: تغييب الثوابت الشرعية التي ننطلق منها 

و ذلك من خلال :

1.       تغييب المرشد الأساس لقِيمنا وأخلاقنا وعلاقاتنا، ذلك المرشد هو الإيمان، الذي يحقق التوازن بين متطلبات الجسد وحاجات الروح، وبين السعي في الدنيا والعمل لليوم الآخر.

وليس الإيمان مجرد نوايا طيبة، إنما الإيمان اعتقاد بالجَنان، وقول باللسان وعمل مثمر بالجوارح يرتقي بالنفس الإنسانية ويتطلع إلى الهدف الأسمى من هذه الحياة.

2.       تغييب الشريعة التي بمثابة الميزان السماوي الذي يسترشد به الإنسان ويعلم من خلاله الصواب والخطأ في تصرفاته ومعتقداته، وحين يغيب عن الإنسان هذا الميزان تضيق تصوراته إلى حدود تفكيره القاصر وظروفه التي يعيشها؛ فتصغر الآمال وتتقازم الاهتمامات فتغدو صغيرة في حدود الدنيا، ويهيمن حينئذ الميزان البشري القاصر المليء بالفجوات والاختلالات التي تزيد العالقين فيه تشتُّتًا وحيرة.

3.       تغييب المعنى الحقيقي لطبيعة الحياة التي هي بين عُسر ويُسر، بين شدة وفرج، بين فرح وألم،…إلخ، و تغييب  حقيقة هذه الحياة ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]، وتغييب سبب وجود الإنسان فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6]، بل محو هذه الحقائق من خلال أفكار غير واقعية من شأنها أن تزيد حالة الهلع والجزع والسخط في الإنسان فتوسع دائرة مشكلاته الحياتية.

 

الركيزة الثانية: مراقبة الذات

إدارة للمشاعر أم صناعة روح بلاستيكية؟!

يتكرر في هذا الطرح (فكرة المراقبة الدائمة لأي مشاعر يمر بها الإنسان “السَّوي” كـالحزن والغضب وتأنيب الضمير والتوتر) فيطرحون تساؤلًا دائمًا عن كل شعور، مثل” :لماذا تشعر بتأنيب الضمير؟ قد يكون لديك خلل وفوضى داخلية ” فتجد ردود الناس تحمل في طيَاتها معاناةً وألمًا وتأنيب ضمير مضاعف على أنها تشعر بذلك!

يا ألله! من كان يتخيل أنَّا سنصل إلى مرحلة الانقياد وراء من يعبث بمشاعر الإنسان الطبيعية ويبعث الشك فيها! 

ليتحول الإنسان من روح تنبض بالفرح تارة والألم تارة، تتعثَّر تارة فتحزن ثم تنهض وتتفاءل وتواصل بعزم رحلة الحياة، إلى شخص مراقب وراصد لأدنى إحساس! إذا حزِن أو توتر أو أخطأ فباغته تأنيب الضمير وقف لهذه المشاعر بالمرصاد بـاسم قوة التسخير مرة وقانون الإرادة مرة وبكلمات براقة لـحياة أجمل!

أي حياة هانئة يبعثها هذا التفكير الذي يهدم كل إحساس “طبيعي” بين مطرقة الوهم وسندان الخرافة؟ 

إذا كان الله جل وعلا وصف مشاعر الأنبياء في القرآن وهم أفضل الخلق بطريقة تظهر فيها العفوية، وتبيّن الروح التلقائية التي يعيشونها مع عظمة المهمة التي يقومون بها، لكنه وصف حقيقي لمعنى الواقعية التي يعيش فيها النبي في الأرض بين البشر، فعبَّروا عن مشاعر الخوف والحزن والترقب والبحث عن الاطمئنان حتى تجسَّدت تلك المشاعر في دعواتهم العظيمة.

 

الركيزة الثالثة: الإغراق في حب الذات

(حِب ذاتك أنتَ الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يعطي نفسه الحُب ما لك غير نفسك ما لك غير ذاتك، لا تشحذ” الحُب من غيرك إذا حبيت نفسك وقمت بخطوات تثبت لنفسك إنك تحبها سوف يأتي الحب من الخارج)

العبارة السابقة نفسها دون تغيير تتكرّر كثيرًا في هذه الأطروحات، وهي تركز على مبدأ أعتقد أنه يحتاج إلى إبراز إشكالياته وكثيرًا ما يرد في الكتب المترجمة التي تختلف عنا في تصوراتها كما أنها تناقض الطبيعة والفطرة الإنسانية في كون الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته يؤثُّر ويتأثر، وفي أن الإنسان تميز عن الجمادات والحيوانات بأنه يمتلك قلبًا وعاطفةً تذرف دمعته على أخيه الذي لا يعرفه لأنه أوذي، ينكسِر إن أصاب غيره ضُر!

هذا هو الإنسان متى ما كان قلبه حياً..

 هذا هو مُذ كان صغيراً وهو في الأشهر الأولى من حياته يبحث عن الأصوات من حوله ثم يكبر قليلاً فيبحث عن الأطفال في عمره، ولو أُعطي كل ألعاب الدنيا لن تسُد حاجته بالرغبة في اللعب مع أطفال مثله.

الإسلام يُعلي من قيمة الجماعة في حياة الفرد بل يعدّها نعمة قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103]

وقال r :”مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” [صحيح مسلم]، والحديث الذي نعرفه منذ أن كنا صغارًا حديث يهدم معانٍ قد يورّثها الخطاب الذي يُسهم في صناعة الإنسان المادي الأناني وهو قوله r :” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” [صحيح البخاري]، وفي حديث آخر عنه r :”وأحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكُن مؤمناً ” [سنن ابن ماجه]، و حين سُئل الحبيب r عن أفضل الإيمان قال من بينها: “و أن تحب للناس ما تحب لنفسك” [مسند أحمد]، وحين سأل r  الصحابي رضي الله عنه: “أتُحب الجنة؟ قال: قلت: نعم، قال: فأحب لأخيك ما تحب لنفسك” [مسند أحمد].

هذا في حال من لا نعرف، فكيف بمن نعرف ونعاشر؟ كيف بالأقارب والجيران والأصدقاء؟

إن اختيار مفردة “الحب” في الأحاديث السابقة يستدعي منَّا الوقوف عندها ملِيًّا، والتأمل في معانيها العظيمة!

إنها مرتبة عالية من الود تحوي الكثير من المشاعر العذبة.

كيف ستكون الحياة حين يطبق كل فرد منّا هذا المعاني الجليلة؟!

أرأيت محبتك لذاتك؟ ستكون محبتك لكل مسلم مثل تلك المحبة، بل أعمق.

أتساءل..

كيف صيَّر أصحاب تلك الدعوات الضالة مشاعر الإنسان إلى جليد أصم!

 أيُّ قسوة يريدون غرزها في قلوبنا الغضة!

ما المصلحة المرجوة من الانغماس في الفردية والتمركز حول الذات؟!

المتأمل في القرآن يجده خلَّد لنا مشاهد لم يشهد التاريخ لها مثيلًا، كـمشهد الأنصار عند استقبال المهاجرين في سورة الحشر، هم الذين أثنى الله جل وعلا عليهم ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ ووصفهم بقوله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾  ثم خُتمت الآية بقاعد عظيمة : ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ إنه شرط تحقيق الفلاح! على قدر اتقائك حرص نفسك تصل إلى الفوز والفلاح في الدارين؛ ذاك لأن شح النفس هو المعوق عن كل خير، الداعي إلى كل شر.

كثير من نصوص الكتاب والسُّنة طرقت هذا الموضوع ليلتفت الإنسان إلى نفسه التي جُبلت على الطمع والطغيان والجحود وحب الذات؛ لينتبه العبد العاقل، فيكرم نفسه عن تلك الخصال الذميمة، ويهذبها بأخلاق الإسلام الكريمة.

كيف لعاقل أن ينصرف قلبه وفكره عن القرآن وينزلق في متاهات الباطل!

بل كيف يقبل أن يكون الباطل قائد حياته وموجهها؟!

إن الذين خلد التاريخ ذكرهم نجدهم يلتقون في حب المنح والعطاء، والصدق مع الآخرين في كل شأن، إلى جانب إخلاصهم لربهم جل وعلا؛ ذاك لأن الحياة الصادقة والمشاعر النبيلة والأهداف العظيمة التي تكون لله بعيدًا عن نزعة الأثرة تكبر وتربو وتستوي على سوقها ثم تبقى خالدة ما بقيت الدنيا!

 

الركيزة الرابعة: بث التواكل

يعمدون إلى التركيز على كلمات مباشرة محددة وتكرارها مثل : “انوِ، استعد، قرر داخليًا، ركز على قانون الجذب ” هذه الكلمات بمثابة قواعد تقعد عن العمل، بل إنهم يصرحون بذلك علانية، إذ يقولون: ” الهدف الذي لم تحصل عليه احذفه من حياتك!”

ومن أقوالهم الفاسدة: ” انتبه! لا تطرق كل الأبواب حتى تحصل على الهدف لأنك لو طرقت كل الأبواب فإن الباب الصحيح سيضيع، وتذكر أن الهدف الصحيح يأتي إليك أنت لا تذهب إليه”!

ومن ادعاءاتهم أيضًا:محاولة بذل الجهد أكثر من اللازم هو إضرار لنسق الكون”!

عجبًا!!

ماذا عن قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ  وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ١٠٥﴾ [التوبة: 105]

وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا  إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ٥١﴾ [المؤمنون: 51]

وقوله: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ  وَاعْمَلُوا صَالِحًا  إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ١١﴾ [سبأ: 11]

وقول النبي r لما قال له الصحابه: أفلا نتَّكل على كِتابنا، وندع العمل؟ قال: “اعملوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلق له” [صحيح البخاري]

ثم لماذا لا يطبق أولئك المتشدقون كلامهم هذا؟ لماذا نرى إعلاناتهم تتزاحم في برامج التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية وفي كل مكان؟

لماذا لا ينوون ويستعدون ويقررون ثم من خلال الطاقة والجذب تصل دوراتهم إلى قلوب الناس؟

إنهم في غيِّهم يترددون!

 

 الركيزة الخامسة : تأليه الذات .

عندما ينطلق الشخص من كلمة (أنا) في الصبح و المساء، عندما يتَّكئ على (أنا) في كل لحظة، عندما يعتقد أن الضُّر و النفع هو من يقوده لنفسه..

 نجد البَوْن بين هذه المنطلقات وبين مُنطلق الإسلام الذي يظهر في أدق التفاصيل.

إن المسلم حين يستيقظ صباحاً وعندما يمسي يقول مقتديًا بالهدي النبوي أذكاره التي منها: “يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح اللهم شأني كله، و لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ” (ولا تكلني إلى نفسي) لم يكتفي بهذه الكلمات بل أضاف (طرفة عين) !

 قال المناوي حول معنى “طرفة عين” في فيض القدير: لا تكلني أي: لا تصرف أمري إلى نفسي، أي: لا تسلمني إليها وتتركني هملا، (طرفة عين) أي: تحريك جفن، وهو مبالغة في القلة.

 وذكر الرازي في مختار الصحاح: أن الطرفة المرة من طرف بصره إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر.

نعم لهذه الدرجة تذكرنا الأذكار بمعنى الاستغناء بالله عن كل شيء وأول ذلك “النفس” لهذه الدرجة وأكثر ينفي المؤمن الحول والقوة إلا بالله، وبتلك الأذكار “يحيا” قوم و”يموت” آخرون لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” مَثَل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر، مَثَل الحي والميت [صحيح البخاري]

والمتأمل في القرآن يجد الكثير من الآيات تصف أهل الإيمان وأولوا الألباب أنهم يلازمون التفكر في الكون والتدبر في الحياة بعيدًا عن ذواتهم.

قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ١٩٠ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ١٩١﴾ [آل عمران: 190-191] 

“الذين يذكرون الله” لم نقف عند هذا المشهد بل يصف الخالق أنهم في كل أحوالهم يذكرون الله “قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم”.

يثني الله الخالق على أولئك الذين يحلقون بعيدًا عن ذواتهم بعيدًا عن التدقيق الدائم في مشاعرهم إلى التدبر في الكون إلى ذكر الله، ولا عجب أن يكون الذاكرون سابقون في ميزان السماء! قال r: “سبق المفَرِّدون”. قالو: وما المفَرِّدون يا رسول الله؟ قال: “الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات” [صحيح مسلم]

ذلك الميزان الذي سيغير نظرتنا في ما نسمع وما نرى وما نقول؛ لأنه ينادينا في كل لحظة إلى التنافس نحو الأعلى نحو النعيم الأبدي ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ٢٦﴾ [المطففين: 26]، بينما تشعرك مثل هذه الأفكار أنك قادر على أن تكون إلهًا تدير تصرفاتك وقدَرِك بنفسك؛ لذا عندما يقع أتباع تلك التُّرَّهات بانهزام أمنية، أو خسارة هدف، أو فشل علاقة، فإن ذلك يُضاعف شعور الحسرة، عندما يحمِّل نفسه الخلل بسبب عدم استخدامها لهذا القانون أو ذاك وعندما يُقال له أن المشكلة ليست في الهدف، و إنما في المكان الذي تعيش فيه المليء بالطاقة السلبية… و هكذا.

تسحب تلك الدعوات الباطلة من الذات الإحساس بالانتماء والرغبة بالتقبل، ويعطيها بشكل دائم القدرة المطلقة، حينها تصطدم بالواقع والمجتمع بل ومع الذات! ذاك لأنها حُمِّلت من صفات الكمال فوق ما تطيق.

 فهل هذه الأفكار تزيد من وعي الذات وحرية الحياة أم سِجنها؟!

 

أ. هاجر الجنيدل.