الشباب وفقه المرحلة



الشباب وفقه المرحلة

يعتري العالم الإسلامي اليوم أحداثٌ لعبت دورها في حياة الشعوب الإسلامية، وأحدثت اتجاهًا فكريًا صارخًا رافضًا لكل أنواع الاستبداد والظلم، مما يُحتّم وبشكل عاجلٍ نشر وتعميم فقه التعامل مع هذه المرحلة، ووضع رؤية شرعية لها مبنية على قواعد الشريعة ونصوصها؛ حتى لا تزلَّ قدم بعد ثبوتها، وحتى لا تعمم حيثيات ذلك الفكر وإجراءاته على جميع الأقطار الإسلامية، فنكون ممن بدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار .

لاسيما وأنّ الوضع الذي نمر به الآن، وضعٌ استثنائيٌ لا يقاس على غيره، ويلزم فيه التفريق بين ما يلائم قطر دون آخر، وكذلك التفريق بين ظروف الشدة والفتن، وبين ظروف السلم والأمن، مع ما يلزم هذه المرحلة من معرفة أصول التعامل مع المخالفين وطبقاتهم، وأحكام التعامل مع ولاة الأمر والحكام بمقتضى ما هم عليه من عقائد الإسلام وتطبيق شعائره.

ومما يهمنا في هذه المرحلة : تجلية عقيدة الاجتماع والجماعة، وهو فقه مهم جدًا غفل عنه شباب أخذوا ثقافتهم من وسائل إعلام وشبكات اجتماعية، وصَحِبَ هذا التلقي من تلك الوسائل جهلٌ عن المقاصد العظمى للدين، من اجتماع الأمة، وجمع الكلمة، وأكثرهم لا يعي مغبّة الافتراق، ولا يُحسن التفريق بين ثوابت ومتغيرات الأحوال، يتحركون في بُعد تام عن مقاصد الشرع العامة وأصوله، مثل قاعدة (جلب المصالح ودرء المفاسد) .

وكم هو مؤسف أن يتكلَّمَ في مصير الشعوب من لا يفقه أحكام التصرف في الفتن، ولا همَّ لهم في جمع الكلمة والإصلاح، بل همهم “مالي” و “مالنا” ولم يهتدوا بكلام أهل العلم من السلف, ولم يسترشدوا بآراء علماء هم بين ظهرانيهم ويعيشون واقعهم.

فالإنسان مهما بلغ من الذكاء والقدرة والمؤهل العلمي، فإنه لا يستطيع وحده أن يصل إلى الحق ما لم يحالفه توفيق الله، ثمَّ يعرف ما كان عليه السلف، ويعالج قضايا العامة والأحداث مع العلماء، وهذا أمر مقلق يجب أن نتناصح فيه وعليه, وما لم يعالج مع الشباب خاصة فالأمر خطير جدًا.

إن أعداءنا اليوم –وكثير منهم من بني جلدتنا- يجدون في تفرقنا تحقيقًا لمصالحهم وأغراضهم، وهذا الصنف المتحمس من الشباب هم مادة وقود الفرقة التي يشعلونها بين صفوف الطائفة الملتحمة, وهم الذين يُكَثِّرُون أتباع أولئك الأعداء .

لذا : علينا أن نفترض أن هؤلاء المتحمسين جهلة أو مقلدين يحتاجون إلى نصح وبيان وإرشاد، وتذكيرهم بالنصوص الشرعية والقواعد الأصولية كقاعدة: (درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح)، التي كان يتعامل بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لدرء الفتن, ومن ذلك حينما درأ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مفسدة الخلاف والتفرق والنزاع، وقدمها على مصلحة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما هو أولى وأفضل، فوافق على متابعة عثمان بن عفان رضي الله عنه في الإتمام بالصلاة خلفه في منى لما حجَّ معه، مع أنه كان يرى أن السنة في القصر تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما, وقال مقولته التي تدل على علمه وحكمته, لما قيل له : عِبْتَ على عثمان ثم صليت أربعًا، قال: (الخلاف شر).

بقي أن ننبه إلى وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر عند جور الأمراء وظلم الحكام, وهي من القواعد الشرعية العظيمة, التي تُدرأ بهما الشرور العظيمة والفتن المستطيرة.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً، مات ميتة جاهلية) ] البخاري:7053[

كما أوصى صلى الله عليه وسلم بالصبر حيال منع الحقوق, في قوله: (إنكم ستلقون بعدي أَثْرَةً، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) [البخاري:4330[، والمعنى أنه يستأثر عليهم بما لهم فيه اشتراك في الاستحقاق فيفضِّل نفسه عليهم، فأرشد من مُنعوا دون حقوقهم، ولم يستطيعوا الوصول لها، أن يصبروا حتى يلقاهم عليه الصلاة والسلام عند الحوض فيحصل لهم الانتصاف ممن ظلمهم, ويجدون حينها الثواب الجزيل على الصبر, ويشربون من الحوض شربة لا يظمؤون بعدها أبداً.

فليس لمن فتن بفتنة حالت بينه وبين حقه في الدنيا مثل (الصبر)، فلا نجعل المصالح الدنيوية هي الحاكمة والمتحكمة على مواقفنا مع مجريات الأحداث, مهما بلغت قسوتها؛ فإنها تظلُّ من أمور الدنيا التي يحسن عاقبتها مع تحمل الأذى والصبر عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن السعيد لمن جُنِّب الفتن، إن السعيد لمن جُنِّب الفتن، إن السعيد لمن جُنِّب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواها) ]صحيح أبي داوود:3/ 803[ .

ولفظ ( واهًا ) اسم فعل, يأتي للتعجب وللتلهف على الشيء، والمعنى : واها لمن صبر وهنيئًا له هذه الحال وهي (تجنب الفتن, والصبر عليها) وكأنَّه تلهف على هذه أصحاب هذه الحال، وهذا تضمَّن الترغيب في الصبر على الفتن وتجنبها واعتزالها .

فياليت أهل الإسلام في ظل هذه الأحداث والفتن يفقهون ذلك, ويعودون إلى الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم, إذ لن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

د. أسماء بنت راشد الرويشد

المشرفة العامة

على مركز آسية للاستشارات التربوية والتعليمية

وموقع آسية الإلكتروني

15/2/1433 هـ